غرس القيم*
(بداية العام الدراسي 1430/1431هـ)

أما بعد:

معاشر المعلمين، معاشر المسؤولين، لقد طال انتظار الآباء لتأثير المدرسة الإيجابي، إننا نتساءل أين التربية بمفهومها الواسع؟ أين غرس القيم، قيم التعامل، قيم النظافة، قيم الاحترام، قيم المحافظة على ممتلكات الوطن، قيم الانضباط، وغيرها كثير؟! إننا ما زلنا نؤدي الدور الأسهل، ألا وهو حشو المعلومات، أمَّا أثرها فلا نراه! وربما أنه لا يعني مؤسساتِنا التعليمية في شيء!
يا رجال التربية، كم هو حجم اهتمام دُور التعليم عندنا بقضية التربية؟ وإن ادعينا أنها موجودة فأين مظاهرها وظواهرها؟ أين برامجها؟ أما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته"؟
يا معَلِّمِي الجيل، يا مديري المدارس، يا مسؤولِي التعليم، أما غيرّت الوزارة مسماها من وزارة المعارف إلى التعليم، إلى التربية والتعليم، فما الذي تغيّر؟
إننا نريد أن نلمس أمرًا واقعيًّا منظَّمًا، يكون جزءًا من العملية التعليمية، إنّ خطأ طالب باعتدائه على زميله، أو تخريبه ممتلكات مدرسته، أعظم بكثير من نسيانه لواجبه، أو عدمِ حفظه لدرسه، ومع هذا نجد اهتمامًا بالواجبات والحفظ، وإنهاء المقرر، ولا نجد اهتمامًا بتعديل السلوك وتقويمه.
أليس اهتمام بعض المشرفين، ومديري المدارس منحصراً في إنهاء المقرر، واستكمال دفتر التحضير؟ ولكن أين متابعة ما يكتب من أهداف؟ وكم هو حجم الأهداف السلوكية، في مقابل المعرفية، وإن وجدت ما وسائل تحقيقها؟ إننا إن أردنا الحقيقة وجدنا ذلك حبراً على ورق، إلا عند من رحم الله.
معاشر المربِّين، دعونا نستعرض بعض القيم المهمة، التي نأمل أن تأخذ حقها من الاهتمام، وأن توضع لها الوسائل والسبل الكفيلة بتحقيقها، خصوصاً ونحن في بداية هذا العام الدراسي.
أولاً: قيمة العلم والتعلُّم.
حب العلم من أعظم القيم، فهو سبب الرفعة والسيادة قال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، ونحن أمة القراءة ، فأول كلمة نزلت على هذه الأمة : اقرأ، ومع هذا لا نشعر أن أبناءنا يهتمون بها، بل إنهم يمزقون الورق، ويهينون الكتب، ويكرهون القراءة والاطلاع، حتى أصبحنا في ذيل الأمم في ذلك، فلِمَ لا يكون هناك طَرق دائم لهذا الموضوع في أول العام الدراسي وأثنائه من خلال المعلمين، والإذاعة الصباحية، والملصقات الجدارية، والمعارض، كما يمكن سرد القصص عن العلماء والمخترعين، وعرض المنجزات والمخترعات والكتب والمؤلفات، وبيان فضل العلم والعلماء، بأسلوب مناسب وطرق جذابة مرئيةٍ ومسموعة، فإن ذلك يرفع الهمة، ويغرس القيمة.
لم لا تتساءل المدرسة ألطلاب يحبون مدرستهم أم يكرهونها؟ وإذا كانت الأخيرة وهو الحق، فأين البرامج والأنشطة التي تحبب الطلاب في مدرستهم، وبالتالي في العلم.
إن شغف الطالب الجديد بالمدرسة ربما يتلاشى بعد الأسبوع الأول من دخوله المدرسة، ثم يتحول الحب كرهاً، والشغف تذمراً، أليس هذا دليلاً على قدرتنا الفائقة في تنفير الطلاب، وزرع كره المدرسة في قلوبهم، وبالتالي العلم والمطالعة؟
حتى لو أنكرنا هذا- كعادتنا- فالواقع المر يشهد بذلك ويشهد له، ولأَن نعترف بالحقيقة خير لنا من أن نتعامى عنها.
ثانيًا: قيمة الاحترام والتقدير.
معاشر المربين، أليس في ديننا بيان لهذه القيمة، أما قال صلى الله عليه وسلم، كما في مسند أحمد بن حنبل بسند صحيح:" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا" ، ألسنا نرى يومياً سلوكيات مشينة من عدم تقدير الكبير، والمعلم، والزميل، إن ذلك يحدث داخل المدرسة، وعند أبوابها، وإن السكوت والتغاضي عن هذه السلوكيات يجعلها تتنامى وتعظم، وتخرج من محيط المدرسة إلى المجتمع كله، وهذا واقع ظاهر نراه مع البقال، وعامل النظافة، وكبير السن، والغريب، وغير ذلك كثير، لهذا يجب أن يُسن نظام واضح في هذا المجال، وأن يكون معلوماً للطلاب، وأنْ يُطبَّقَ بصرامة، يجب أن نُربّي أبناءنا- على الأقل في المدرسة- على احترام وتقدير الآخرين، تقدير المعلم، والوالدين، والجيران، وزملاء الدراسة، وكل مَن نتعامل معه، ومَن يتجاوز ذلك؛ لابد من توجيهه أو عقابه دون مداهنة أو محاباة، حتى يتربى الطلاب على احترام الآخرين، وتقدير حقوقهم.
ثالثًا: قيمة المحافظة على الممتلكات العامة.
معاشر المربين، لما لا تُحصر صور التخريبات في المدرسة ومحيطها الخارجي في بداية هذا العام؟ إننا لو فعلنا ذلك سنجد بوضوح: الكتابة على الجدران، تكسيرَ الزجاج، تمزيقَ الأوراق، العبثَ بالطاولات والكراسي، رمي النفايات!
وفي المقابل، لا نجد برامج تربويةً صارمة، لمعالجة مثل هذه الظواهر السيئة، بل على العكس، نجد التغاضي عنها، والرضا بها، وكأننا نربي على زيادتها لا محاربتِها.
ونحن نتساءل لِمَ لا يُسَن نظام واضح لذلك، يُعاقَب فيه المُخَرِّب داخل المدرسة؛ بإصلاح ما خرّب مِن خلال ولي أمره، ولو طُبّق ذلك بصرامة مرة ومرتين؛ لرأينا تغيّرًا ملحوظًا، ولَرأينا أبناءنا يحافظون على مدارسهم، كما يحافظون على بيوتهم.
لمّا سئل بعض الطلاب في ماليزيا وهي دولة مسلمة: لِمَ لا نجد كتاباتٍ ولا تمزيقاً ولا تخريباً؟ قالوا: ولِمَ نُخرِّب ممتلكاتٍ بلدنا؟ ألا يمكن أن نصل بأبنائنا إلى مثل هذا الوعي؟ بلى والله لو حسنت النيات وتكاتفت الجهود وعملنا لهدف واحد، إن هذا هو الوعي، وهو الوطنية الحقيقية، لا الشعارات البراقة ، واللافتات الجميلة والواقع ينطق بغير ذلك!.
رابعًا: قيمة الانضباط والنظام.
معاشر المؤمنين، أليس الخروج عن النظام وعدم الاهتمام به هو السائد في مجتمعنا؟ إن ذلك يعني أن التربية على هذه القيمة ضعيفةٌ أو غائبة، ويمكن أن يتم ذلك من خلال استثمار الطابور الصباحي، والحضور في موعد محدد، وطريقة دخول الفصول، وسلوك الطلاب عند شراء طعامهم من المقصف، وعند الخروج من المدرسة، وطريقة انتظار أولياء الأمور، وتعامل الطلاب مع السيارات والشارع، كل ذلك يحتاج إلى جهود مضاعفة مِن قِبل الأساتذة الكرام، وإدارة كل مدرسة، أمَّا أنْ يُترك الطلاب هملاً، أو نقتصر على العقوبات الجسدية، ونحن لمْ نُقدِّم برامج حقيقية مدروسة؛ فهذا غير مجدٍ، ولن يؤتي أُكلَه.
خامسًا: قيمة النظافة والجمال
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أحب أن أتجمل بسير سوطي وشسع نعلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ذاك ليس بالكبر، إن الله جميل يحب الجمال..." رواه أحمد ورجاله ثقات.
فلِمَ لا يتربى الطلاب على العناية بهندامهم، ونظافة مدرستهم من خلال برنامج عملي دائم على النظافة والأناقة؟
ويمكن أن يتم من ذلك خلال العمل الجماعي بين الأساتذة والطلاب في تنظيف فصولهم والعناية بجمالها، وهذا ليس بعيب، بل هو أجر وفضل، إنه من إماطة الأذى المأمور به.
ولا بد أن يصاحب ذلك عناية بالساحة المدرسية، فينبغي أن تمتلئ بالتعليمات التي توجّه الطلاب للتخلص من النفايات، وتكتبَ العقوبات لمن يخالف ذلك، وتطبقَ تلك العقوبات على المخالفين.
ولو تم ذلك بصرامة ومتابعة؛ لأوْجَد وعيًا حقيقيًّا وملموسًا بقيمة النظافة، ولانعكس ذلك على الشارع والمسجد، والحديقة والوطن بعمومه.
اللهم أقر عيوننا بصلاح أزواجنا وذرياتنا، واجعلنا للمتقين إماماً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله ، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
______________________


الخطبة الثانية:
أما بعد:

فبقيت قيمة مهمة لابد من التطرق إليها ألا وهي:
قيمة التطوع ونفع الناس.
دعونا نتساءل -أيها الكرام- عن قدر برامج التطوع التي يتعرض لها طلابنا طيلة عمرهم الدراسي؟ إن الإجابة مخزية، لأنه لا يوجد شيء من هذا، وإن وجد فهو جهد فردي، لا عملٌ مؤسسي.
كيف نريد -بعد هذا- أن يكون أبناؤنا نافعين منتجين، لم لا تُخصَّص برامج لهذا الغرض، تدمج مع المنهج، ويكون هناك حد أدنى من العمل التطوعي، يقوم به الطالب في كل مرحلة دراسية، ويكتب في سجله.
والأعمال التطوعية كثيرة ومتنوعة، فمن ذلك: تنظيف المدرسة، الوقوف لتنظيم خروج ودخول الطلاب، المشاركة في الأسابيع التوعوية، العمل مع الجمعيات الخيرية، وغير ذلك كثير المهم أن يكون هناك اهتمام وحرص، وأن ترفع كل القيود التي تعيق ذلك.
معاشر المعلمين تعالوا لنتأمل هذا المثال لو طبقناه، ماذا يضير المدرسة، لو قام أحد المعلمين بإخراج طلابه من مدرستهم في حصته، وقام بجولة معهم على الأقدام في محيط المدرسة الخارجي، وطلب منهم أن يسجلوا كل المظاهر السيئة التي يرونها من تكسير، ونفايات، ووقوف غير نظامي، وغير ذلك، ثم بعد ذلك يعود بهم لمناقشة ذلك ووضع الحلول التي هم جزء منها، وربما يكونون هم جزء من المشكلة؟
أليس هذا أنفع وأوقع من الجلوس في الفصول، وترديد الشعارات والمبادئ، ثم لا نرى منها شيئًا؟
أليس ذلك أدعى إلى نشاط الطلاب وتحبيبهم في المدرسة.
انظروا -يا معلمي الجيل- كيف قال سبحانه عن الحج: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: 27، 28]، قال: ﴿ليشهدوا﴾، ولم يقل: ليعملوا، المشاهدة غير العلم، المشاهدة فيها معايشة، فيها قناعة، فيها تأثير، وكثيرًا ما نجد في القرآن: ﴿ألم تر﴾ ، ﴿ألم تروا﴾، ﴿ألم يروا﴾ فيما يقارب أربعين موضعاً.
فلماذا الرؤية إذاً؟ لأنها مشاهدة، إنّ أقل ما يتعرض له طلابنا هو معايشة الواقع، نحن لا نؤمن في تعليمنا إلا بالتلقين، وحشو المعلومات واستظهارها، وأما المواقف والأحداث والوقائع والمشاهدات، فهذه في ظن بعضنا ليست علمًا، وهذا غير صحيح، فكم مرة وجه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال موقف أو حدث، ولماذا نزل القرآن منجمًا على الحوادث؛ لأن ذلك هو الطريقة الصحيحة في التعليم، وبهذا يجمع التعليم بين المتعة والفائدة، وبهذا تكون التربية هي الأساس، والمعلومات خادمة لذلك.
ماذا على المدرسة - بكل طاقمها- لو عملت من أول يوم على رصد القيم المهمة التي تسعى لغرسها في قلوب الطلاب، ووضعت الوسائل الكفيلة بتحقيقها حسب قدرة كل مدرسة، وجعلت ذلك تحدياً حقيقيا لرسالتها، وفي المقابل رصدت كل السلوكيات المخالفة لذلك، بدءاً من استقبال الطلاب صباحاً، وحتى توديعهم ظهراً، إننا بهذا نقيّم الواقع ونتعامل معه، وبهذا يمكن أن ننجح.
معاشر المربِّين، نحن ندرك حجم العمل الذي تقومون به، وربما المعوّقات التي تَحُول بينكم وبين ما تشتهون، ولكن قيمة الرسالة التي تحملون، وهمتكم في إخراج جيل نافع منتج؛ تجعلكم تتجاوزون كل ذلك، وتعملون على غرس تلك القيم العظيمة في نفوس الناشئة.
معاشر المربين، إذا جعلنا التربية قبل التعليم في اهتماماتنا، نكون بذلك قد وضعنا أقدامنا على الدرجات الأولى من سلم الصعود إلى القمة.
نسأل الله أن يكلل الجهود بالنجاح والفلاح ، وأن يأخذ بأيدينا إلى الخير والصلاح ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله صلوا وسلموا على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم بذلك العليم الخبير، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

____________
* ألقيت بجامع البازعي بتبوك، الجمعة الموافق 27/10/1430هـ.
-------
المصدر:
http://www.alatwi.net/inf/articles.php?action=show&id=164