قال شيخ الإسلام في حديث الأطيط والجلوس (16/434 وما بعدها):
وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ . وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَرْوِي عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي فِي " مُخْتَارِهِ " . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرُدُّهُ لِاضْطِرَابِهِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ . لَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَبِلُوهُ . وَفِيهِ قَالَ : { إنَّ عَرْشَهُ أَوْ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهُ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ أَوْ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ إلَّا قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } . وَلَفْظُ " الْأَطِيطِ " قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ . وَابْنُ عَسَاكِر عَمِلَ فِيهِ جُزْءًا وَجَعَلَ عُمْدَةَ الطَّعْنِ فِي ابْنِ إسْحَاقَ . وَالْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا لَهُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَلَفْظُ " الْأَطِيطِ " قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِهِ . وَحَدِيثُ ابْنِ خَلِيفَةَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مُخْتَصَرًا وَذَكَرَ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ وَكِيعٌ . لَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ رَوَاهُ رَوَوْهُ بِقَوْلِهِ { إنَّهُ مَا يَفْضُلُ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ } فَجَعَلَ الْعَرْشَ يَفْضُلُ مِنْهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ . وَاعْتَقَدَ الْقَاضِي وَابْنُ الزَّاغُونِي وَنَحْوُهُمَا صِحَّةَ هَذَا اللَّفْظَ فَأَمَرُّوهُ وَتَكَلَّمُوا عَلَى مَعْنَاهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ الِاسْتِوَاءُ . وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ العايذ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ مَوْضِعُ جُلُوسِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ : { وَإِنَّهُ لَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ } بِالنَّفْيِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ هَذِهِ تَنْفِي مَا أَثْبَتَتْ هَذِهِ . وَلَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ الْجَزْمِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْإِثْبَاتَ وَأَنَّهُ يَفْضُلُ مِنْ الْعَرْشِ أَرْبَعُ أَصَابِعَ لَا يَسْتَوِي عَلَيْهَا الرَّبُّ . وَهَذَا مَعْنًى غَرِيبٌ لَيْسَ لَهُ قَطُّ شَاهِدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ . بَلْ هُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ أَعْظَمَ مِنْ الرَّبِّ وَأَكْبَرَ . وَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلْعَقْلِ . وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ عَظَمَةَ الرَّبِّ بِتَعْظِيمِ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ وَقَدْ جَعَلَ الْعَرْشَ أَعْظَمَ مِنْهُ . فَمَا عَظُمَ الرَّبُّ إلَّا بِالْمُقَايَسَةِ بِمَخْلُوقِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الرَّبِّ . وَهَذَا مَعْنًى فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ . فَإِنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ عَظَمَةَ الرَّبِّ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَعْلَمُ عَظَمَتَهُ . فَيَذْكُرُ عَظَمَةَ الْمَخْلُوقَاتِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الرَّبَّ أَعْظَمُ مِنْهَا .

كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا حَدِيثِ الْأَطِيطِ لَمَّا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : { إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ : وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } . فَبَيَّنَ عَظَمَةَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ مِثْلَ الْقُبَّةِ . ثُمَّ بَيَّنَ تَصَاغُرَهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ . فَهَذَا فِيهِ تَعْظِيمُ الْعَرْشِ وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغَيْرُ مِنِّي } . وَقَالَ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ . مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي رِوَايَتِهِ النَّفْيُ وَأَنَّهُ ذَكَرَ عَظَمَةَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْعَظَمَةِ فَالرَّبُّ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ كُلِّهِ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ . وَهَذِهِ غَايَةُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْمِسَاحَةِ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ كَمَا يُقَدَّرُ فِي الْمِيزَانِ قَدْرُهُ فَيُقَالُ : مَا فِي السَّمَاءِ قَدْرُ كَفٍّ سَحَابًا . فَإِنَّ النَّاسَ يُقَدِّرُونَ الْمَمْسُوحَ بِالْبَاعِ وَالذِّرَاعِ وَأَصْغَرُ مَا عِنْدَهُمْ الْكَفُّ . فَإِذَا أَرَادُوا نَفْيَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَدَّرُوا بِهِ فَقَالُوا : مَا فِي السَّمَاءِ قَدْرُ كَفٍّ سَحَابًا كَمَا يَقُولُونَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ { إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } وَ { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَبَيَّنَ الرَّسُولُ أَنَّهُ لَا يَفْضُلُ مِنْ الْعَرْشِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا الْقَدْرُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَهُوَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ . وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمُوَافِقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لَهُ شَوَاهِدُ . فَهُوَ الَّذِي يُجْزَمُ بِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ . وَمَنْ قَالَ " مَا يَفْضُلُ إلَّا مِقْدَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ " فَمَا فَهِمُوا هَذَا الْمَعْنَى فَظَنُّوا أَنَّهُ اسْتَثْنَى فَاسْتَثْنَوْا فَغَلِطُوا . وَإِنَّمَا هُوَ تَوْكِيدٌ لِلنَّفْيِ وَتَحْقِيقٌ لِلنَّفْيِ الْعَامِّ . وَإِلَّا فَأَيُّ حِكْمَةٍ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ خَالِيَةٍ وَتِلْكَ الْأَصَابِعُ أَصَابِعُ مِنْ النَّاسِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا أَصَابِعُ الْإِنْسَانِ . فَمَا بَالُ هَذَا الْقَدْرُ الْيَسِيرُ لَمْ يَسْتَوِ الرَّبُّ عَلَيْهِ ؟ وَالْعَرْشُ صَغِيرٌ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لِمَعْنَاهُ شَوَاهِدُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا . فَيَنْبَغِي أَنْ نَعْتَبِرَ الْحَدِيثَ فَنُطَابِقَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .