(بسم الله)
الكلمة الأولى والآية الأولى التي وردت في هذه السورة جاءت (بسم الله)
وسواء كنا مع المفسرين الذين اعتبروها آية من سورة الفاتحة أو مع من لم يعتبرها واعتبر البسملة آية في كل سورة النتيجة واحدة:
أنا لا أفتتح هذا الكتاب إلا بقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
البسملة تذكّرني بأني عبد وأن كل ما أنا فيه من أعمال وكل ما أقوم به من أعمال أنا لا أدخل على العمل بذاتي ولا بقوتي ولا بإمكانياتي ولا بالأسباب لوحدها أنا أدخل عليها باسم الله.
البسملة تذكرني أن لا شيء يتحرك في الكون بدون اسم الله عز وجل إقرار مني بأن الله هو الذي يحرّك، هو الذي يفعل،
هو الذي يسبب هذه الأسباب، هو الذي يجعلني أستعمل هذه الأسباب.
إذن سورة الفاتحة ومن أول كلمة فيها (بسم الله) تربيني، تجعلني عبداً أتخرّج فعلاً في مدرسة العبودية وأتعلّم منذ أول كلمة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أن أكون عبداً حقاً لله سبحانه
ولذا لا ينبغي لي أن أعمل عملاً دون البدء به ببسم الله وإلا كان العمل ناقصاً أبتر مقطوعاً مبتوراً قليل البركة، قليل الفائدة
(الرحمن الرحيم)
الرحمن الرحيم في كلمة البسملة ثم (الرحمن الرحيم)
التي ستأتي فيما بعد في سورة الفاتحة تذكرني بأمور عديدة:
واحدة من أعظمها أن علاقتي مع الله عز وجل قائمة على الرحمة،فأنا عبد مرحوم لأن علاقتي بمن؟
علاقتي بالرحمن الرحيم. وسبحان الله العظيم اختيار الإسمين معاً (رحمن رحيم) رحيم بعباده رحمة متواصلة
سواء كان هؤلاء العباد في حالة خطأ في حالة بُعْد عنه أو في حالة تقرّب إليه وعبودية خاصة.
نحن جميعاً عبيد، عبيد ربوبيته سواء عصيناه أو أطعناه وهو في هذه الحالة رحمن بنا سبحانه وتعالى
وكذلك نحن عبيد عبودية الألوهية حين نختار طريق العبودية وعلاقة العبودية هنا فيها اختيار
وهنا يأتي معنى الرحيم يعطيني رحمة خاصة لأهل عبوديته لأولئك العبيد الذين يعبدونه عبودية الألوهية، الاختيار
(الحمد لله رب العالمين)
الحمد. أنا أول ما أفتتح العلاقة بيني وبين الله عز وجل أول كلمة أريد أن أخاطب بها ربي أول كلمة أريد أن أقولها لربي: يا رب الحمد لله.
ومن هنا كان يستحب للمؤمن أن لا يبدأ دعاءً إلا بقوله: الحمد لله، تقديم الثناء، تقديم الشكر. والحمد لله كلمة جامعة تجمع كل معاني الثناء، كل معاني المدح،
كل معاني التذلل والانكسار بين يدي الله عز وجل (الحمد لله).
سورة الفاتحة التي تكرر في كل ركعة تعودني أن أستحضر النعم،
تعودني وتعلّمني وتدرّبني على أن أرى النعم بعيني والفارق شاسع بين عبد يقول الحمد لله مجرد كلمة وبين عبد حين يقول الحمد لله من أعماق قلبه تبدأ كل النعم التي وهبها الله عز وجل لهذا الإنسان تظهر أمام عينيه واضحة للعيان. الحمد الذي تبنيه سورة الفاتحة لكي يكون عبادة حقيقية حمدٌ يحوّل الحمد من شعور في القلب وكلام باللسان إلى فعل وسلوك
(مالك يوم الدين)
ثم تنتقل الآية إلى آية عظيمة جداً تنقل الإنسان إلى الواقع الذي لا ينبغي أن ينفك عنه الإنسان أبداً في حياته (مالك يوم الدين).
رحلة الحياة القصيرة التي قد تستغرق من الإنسان كل الهموم كل الأحزان كل الاهتمامات وتذهب بعيداً به عن خالقه وتشرد به أحياناً حتى في صلاته،
هذا الاستغراق الكامل للحياة القصيرة تحررها كلمة (مالك يوم الدين) تذكر تماماً أن الرب الذي أقمت وافتتحت العلاقة معه في الدنيا هو الرب الذي يملك يوم الدين يوم الجزاء.
يذكِّرك ويربط دائماً وهذه طبيعة القرآن وسورة الفاتحة تؤسس هذا المعنى أن الحياة ليست هي نهاية المطاف في الحقيقة الحياة هي بداية المطاف.
في الحقيقة بداية العلاقة التي تبنيها سورة الفاتحة في الحياة ستمتد إلى ذلك اليوم العظيم (مالك يوم الدين).
فإذا كان الرب الذي أعطاك ومنحك وأغدق عليك نعمه ظاهرة وباطنة وتولى تربيتك في الدنيا هو الذي سيتولى الجزاء في الآخرة،
هو الذي يمتلك يوم الدين، فكيف يا ترى سيكون ظنّك به؟ كيف سيكون اقبالك عليه؟
كيف سيكون حرصك على تقوية العلاقة به عز وجل (مالك يوم الدين)؟. وهل سيبقى في قلبك ملوك آخرين إن صح التعبير؟
وهل سيبقى في قلبك شعور بالعبودية لأحد سواه سبحانه وتعالى؟
وجاء بكلمة (مالك) وجاء بكلمة (يوم الدين) وقد يقول قائل ويتبادر إلى الذهن أن في الدنيا ملوك
وهذه حقيقة ولكن الحقيقة أن هذا الملك الذي ينسب إلى ملوك الدنيا مهما كثروا ومهما كان ملكهم إنما هو ملك ظاهري يقال على سبيل التجوّز
فقد يمتلك الإنسان قطعة أرض، قطعة بلد، شيء من متاع الدنيا ملك ظاهري يملك التصرف فيه إلى حد ما، الملك هنا ليس ملكاً مطلقاً إلى حد ما فترة من الزمن
ولكن لمن سيعود ذلك؟ الملك الحقيقي لمن؟ لله الواحد القهار،
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
أن من أكثر الأشياء التي تقوي مناعة المريض المريض أمراض بدنية ضد الأمراض أن تقوي جانب الإرادة والتفاؤل لديه، الطاقة الإيجابية الحقيقية فيه.
سورة الفاتحة تعطيني هذا المعنى حين أقول وأردد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
حين أكون مستحضراً لهذه المعاني مقرراً لها بقلبي وفعلي ولساني أن الرب الذي يصرّفني في أموري
الرب الذي يكتب لي المرض التعب الشقاء أحياناً الأشياء التي لا تروق لي رب رحمن رب رحيم
وهذه معاني عظيمة تحققها سورة الفاتحة لتفتح لي طبيعة العلاقة الجديدة بيني وبين الله عز وجل.
آية في سورة الفاتحة وضعت علاجاً للضلال وللغضب في آياتها واحدة تلو الأخرى خلّصت الإنسان من الضلال،
الضلال البعد عن الله عز وجل بكل أشكاله وأنواعه ولا يمكن أن يأتي الضلال لأنه إنتكاسة إلا باتباع منهج غير منهج الله سبحانه.
ولما جاءت (إياك نعبد) جعلتني فعلاً أبتعد في حصانة، في درع، في وقاية من الضلال.
لا يمكن أن يأتي الضلال وأنا أعبد الله حق العبادة، الضلال لا يأتي إلا حين أتخذ معبوداً من دون الله وغالب من يُعبد من دون الله هو الهوى، النفس.
الضلال وكل الأمراض المتشعبة المتنوعة من حسد من حقد من تنافس على الدنيا من أشياء متنوعة من أشكال الضلال
لا يمكن أن تأتي إلا من قبيل النفس فقط واتباع الهوى خلّصتني سورة الفاتحة منها
(إهدنا الصراط المستقيم).
والهداية هي أعظم مطلوب وقد يتعجب الإنسان بعد تقديم الثناء وبعد تقديم التوحيد بأشكاله لله سبحانه وأنواعه وبعد الترقّي يا ترى ألا أطلب شيئاً غير الهداية؟ أبداً.
أعظم مطلوب تربيني سورة الفاتحة عليه الهداية والهداية. كما نعلم جميعاً على نوعين:
هداية عامة لكل البشر لعبيد ربوبيته هو قال سبحانه (رب العالمين) رب كل أحد رب الكافر ورب المؤمن رب الذي يعصيه كما هو رب الذي يطيعه.
الهداية الأولى العامة هداية البيان ربي بيّن ربي أرسل رسلاً أنزل كتباً أعطى كل هذه الدلائل أعطى كل هذه الإشارات للتوصل إليه لسلوك الطريق إليه لبناء
العلاقة معه عز وجل هذه هداية عامة. ولكن الهداية التي أطلب في سورة الفاتحة هداية خاصة هداية لا تكون إلا لعبيد ألوهيته،
العبيد من درجة خاصة، العبيد الذين ترقّت بهم سورة الفاتحة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
هداية خاصة بمعنى هداية التوفيق هداية التيسير هداية التوفيق للطاعات وأعمال البر هداية التيسير
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
وتدبروا معي كيف أن كلمة اهدنا جاءت بصيغة الجمع لتذكر الإنسان أنك فرد صحيح ولكنك فرد في جماعة وأن هذا الأمر متعلق بمشيئته سبحانه،
أنا فرد صحيح أحب الخير لنفسي باعتبار البشرية وحدود البشرية ولكنك أنت عبد يريد ربك أن يربيك والعبد الذي يريد الله أن يربيه عبد غير أناني،
عبد معطاء، عبد يطلب الهداية لنفسه ولغيره ولذا جاءت (إهدنا) بصيغة الجمع ولم تأتي بصيغة المفرد
ولا تُقبل من العبد حين يطلبها على الإفراد لأنك تعبده كما يريد لا تعبده كما أنت تريد
(صراط الذين أنعمت عليهم )مرتين، تكررت كلمة (الصراط) في سورة الفاتحة (إهدنا الصراط) ثم تأتي (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) القضية في غاية الأهمية ومن الذي يُنعم؟
ومن الذي يُغدق على العبد ليسير في الصراط المستقيم؟ الله مرة أخرى.
العلاقة التي تبنيها سورة الفاتحة العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وبين عبيده علاقة عجيبة علاقة تُشعر المؤمن بأن كل حركة تقوم بها الفضل فيها لله سبحانه.
(أنعمت) أنت الذي تُنعم لست أنا باختيار بعض الناس قد يهيأ له للحظة أن يمنّ على الله سبحانه وتعالى أنا أصلي وأصوم وأفعل الخير، من الذي يمنّ؟!
(أنعمت) أنت الذي تنعم بالطاعة (أنعمت عليهم). وتضع الإنسان سورة الفاتحة في هذه الآية على المحك النعمة الحقيقية ليست في كثرة مال ولا في فتح الدنيا من كل أبوابها على الإنسان،
النعمة الحقيقية هي الهداية إلى الصراط المستقيم أنا قد أمتلك أموالاً وجاهاً ومناصب ونعماً دنيوية متعددة فتكون هي مصدر الضلال والغضب من الله عز وجل،
إذاً أين النعمة في هذه؟ هذه نقمة ليست نعمة.
النعمة الحقيقية هي الهداية وهي النعمة الكبرى لأنها تحوّل كل الأشياء التي يهبني ربي عز وجل إلى نعم متعددة تصب في تلك النعمة.
في سورة الفاتحة تفتح على الإنسان في هذه الآية شيئاً عجيباً تخلصه من الشعور بالغربة وخاصة غربة آخر الزمان
حين يستشعر الإنسان أنه غريب في وسط جموع من الناس قد تختلف معه في الآراء في الأفعال في التصرفات قد يخيل إليه في بعض الأحيان فعلاً أنه غريب غريب بكل معاني الغربة،
غريب في ما يفعله، غريب في تصوراته ومعتقداته، غريب حين ينأى عن الدنيا بمعنى الترفع عن دناياها،
فالكل متكالب على الدنيا على سبيل المثال ولكن هذه الغربة تبددها سورة الفاتحة حين تضع في حسبان المؤمن أنك مع الذين أنعمت عليهم
وأن هذا يا مؤمن هو مطلوبك في الأصل وأنك تدعو ليل نهار بهذا الدعاء
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
إذاً حين تتفرق سبل الدنيا لا تأسف عليها فقد تكون تلك السبل طريق الضالين أو ربما طريق من غضب الله عليهم والضلال والغضب بينهما تناسبت
ختمت لي بموضوع
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
لتسدل الستار على جميع الأنواع والأفعال التي يمكن أن تقود وتأخذ الإنسان بعيداً عن منهج الله عز وجل وكأن ذاك الإنسان واقفاً على ما يغضب الله عز وجل إن كان بعيداً عن ذاك المنهج.
الأعمال والأفعال التي يقع فيها الإنسان وتستجلب غضب الله عز وجل لا يمكن أن تكون إلا حين يبتعد عن المنهج
ولذا ربي عز وجل حذّر في آيات متعددة من أفعال اليهود ووصف بالوصف الدقيق في بعض الأحيان (غضِب الله عليهم) لماذا؟
لو أردنا أن نلخص الأفعال كاملة لوجدناها في البعد عن منهج الله عز وجل.
العبد أيّاً كان حين لا يحقق معنى إياك نعبد في واقع حياته ويعبد أشياء متعددة ويعبد هوى النفس ويبتعد عن الطريق قطعاً قد وقع في ضلال مستجلباً غضب الله عز وجل.
الترابط بين الضلال والغضب واضح، من ضلّ عن منهج الله غضب الله عليه ومن عبد الله حق عبادته كما أوضحت سورة الفاتحة لا يمكن أن يكون ضالاً أو مغضوباً عليه
بهذه المعاني العظيمة استحقت هذه السورة أن تكون أعظم سورة في كتاب الله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح علينا في هذا الكتاب العظيم وأن يجعل الفاتحة فاتحة لنا لكل خير إنه سميع مجيب الدعاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تدبر سورة الفاتحة
د. رقية العلواني
اسلاميات