والثاني والستون بعد المائة:
في حصر الابتهال إلى الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إشعار بالتزام عبادة الله وطاعته، وتنفيذ حكمه إلى الموت، وتأكدهما عليه كلما ازدادت معرفته بربه وعظيم آلائه، وزاد يقينه بوعده ووعيده، فإن ضراعة المؤمن إلى الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ بعدما ما ذكرناه في القاعدة السادسة والخمسين بعد المائة من معرفته بالبداءة باسمه والثناء عليه، والاعتراف العام بربويته والرجوع إليه يوم الحساب.
هذه الضراعة بعد ذلك هي عهد يجدده مع ربه في هذه السورة المباركة، التي علمه إياها على حصر العبادة له وحده، متبرئاً من عبادة الهوى بأي صورة تنوعت، وبأي نحلة ظهرت، ملازماً لذلك طيلة حياته حتى يأتيه اليقين الذي هو الموت، وأن مسئوليته في إنفاذ هذا العهد من عبادة الله بكل ناحية من نواحي الحياة تزداد كلما ازدادت معلوماته من الروافد الدينية، التي فصلناها في القاعدة المذكورة وما بعدها، ويتحتم عليه الجهاد بجميع أنواعه ومتطلباته، درءاً لكل فتنة تصده عن ذلك، وزحفاً بعقيدته الروحية ليكون مرفوع الرأس.
وإنه لا يسقط عنه أي نوع من أنواع العبادة مع القدرة عليه مهما عمل أو بلغ من أنواع التصوف أو علم من المكاشفات المزعومة أبداً، وإن اليقين الوارد في قوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99] هو كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه إذ قال: "أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه"[16] يعني: الموت، فلا ينفك العبد من عبودية الله إلا بالموت، ومن زعم أنه يصل بشيء من أنواع التصوف إلى مقام يسقط فيه التعبد فهو زنديق كافر مناقض لما رسمه الله لعبادة في هذه السورة، ومناقض لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين لم يسقطوا عن أنفسهم من عبادة الله، ولا مثقال ذرة، بل بلغ بهم الأمر إلى بذل نفوسهم ومهجهم في سبيل الله، لم يدَّعِ أحد منهم علماً باطنياً، ولم يزعموا أن العبد هو الرب؛ لأن فيه من نواة حقيقته التي يجهلها الرسل فيما يزعم ضُلاَّل الصوفية، فإن هذا تطاول على وحي الله، وأعظم افتراء على الله وانتقاض لرسله، وأي انتقاض لرسله أفظع من زعم هؤلاء أنهم أعلم منهم وأنهم يصلون إلى درجة يسقط عنهم فيها التكليف؟
هذا كفران بسورة الفاتحة وغيرها من الوحي وكفران بمنزله ومن أنزل عليه - والعياذ بالله- وهذا من عدم تحقيق الاستعاذة بالله عن صدق من الشيطان الرجيم، من جنس الشيطان المبتعد عن الله من الجن والإنس، وكما فصلنا ذلك في باب الاستعاذة.
ومن تدبر معاني هذه السورة الكريمة وأخواتها ومفسراتها من وحي الله المنزل على رسوله كتاباً وسنة، وهو صادق في استعاذته من جنس الشيطان، بابتعاده عنه ونفرته منه، استنار بأنوار التوجيه التي تهديه إلى الاستقامة على عبادة الله، والتزامها في كل ميدان من ميادين الحياة، حتى يموت على ذلك محتسباً، ولا يجعل لنفسه حرية الشهوة أو ترك العمل، دون برهان من الله بالرجوع إلى أمره وحكمه فيه، والله الموفق.
الثالث والستون بعد المائة:
تقديم العبادة على الاستعانة في هذه الآية الكريمة من باب تقديم الغايات على الوسائل، ذلك أن العبادة هي غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، والحكمة في ذلك التقديم هي أن المصلي وغيره من كل متلبس بالعبادة يقول: (إني شرعت في طاعتك تحقيقاً لعبادتك، فأستعين بك في إتمامها وإنجاحها على ما يرضيك) وحتى المجاهد، عليه ألا يغتر بقوة ساعده، أو قوة عتاده أو كثرة زملائه وأعوانه، بل يضرع إلى الله الذي جاهد في سبيله بهذه الآية ضراعة الصادق طالباً مدده الأعلى، الذي لا يغلبه شيء، ففي ذلك إزالة للزهو، وإفناء للحمق والكبرياء.
ثم إن العبادة لما كانت له - جل وعلا- وجب تقديمها، ولما كانت الاستعانة به سبحانه وتعالى ساغ تأخيرها، قال ابن القيم رحمه الله: "والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبداً حتى يقضي العبد نحبه". وقال الشيخ ابن تيمية: "تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فهذا الدعاء بهذه الآية من حظ أهل العبادة لله، والمعرفة به حقيقة، ولذا علمه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ فقال:يا معاذ: "إني أحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللَّهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"[17].
الرابع والستون بعد المائة:
ضراعة عبد الله إليه بهذه الآية الكريمة مبتدئاً بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ وطالباً منه العون التام عليها بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ إشعار صريح منه بالتصميم على العمل، والعزم التام على إكماله والمثابرة عليه طيلة الحياة، فهو يطلب منه المعونة على أداء جميع ما تستوجبه عبادة الله في كافة الشئون والنواحي المتشعبة والمتجددة في الحياة، إذ لا يمكن أن يطلب الاستعانة قبل الشروع في أداء الواجب مع صدق النية والعزم على التصميم والثبات، فإن التصميم والثبات ومداومة الصدق والإخلاص يحتاج كل منها إلى معونة الله، ومدده الذي يستطيع به عبده على مجاهدة النفس، ودفع وساوس الشيطان الإبليسي ومجابهة ما تقذف به شياطين الإنس من وسائل الإغراء التي يجري في دفعها أعظم مكابدة لا يبلغ العبد الدرجة القصوى في الثبات عليها إلا بعون الله وتسديده.
فكان من اللائق تقديم الضراعة من العبد إلى الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ توسلاً منه إلى ربه بما يرضيه من العبادة، ثم يضرع إليه بطلب العون على الثبات عليها، والتكيف بها في كل شأن من شئونه، معترفاً بأنه لا معين له في الحقيقة سواه، وفي هذا تجريد التوحيد من الاستعانة بغيره، وتحقيق المتابعة لوحيه من كتابه وسنة رسوله، إذ من لم يحقق ذلك فليس عابداً لله، ومن سلك ما يخالف ذلك كان عابداً لهواه، ومتبوعه من دون الله.
الخامس والستون بعد المائة:
لما كان الارتقاء لا يحصل إلا بالإيمان بالله عن استيقان كامل، وحب وتعظيم له، لا يعلوه غيره، كان الحامد لله حمداً صحيحاً على نعمه وحسن تربيته للعاملين، وعظيم رحمته، وشمول ملكه وقهره، واختصاصه بالحكم بين الناس في الدار الآخرة، يتقدم إليه بهذه الضراعة العظيمة الحبيبة إليه - جل وعلا-: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ تلقياً منه لها بتعليمه إياه، عازماً على تصديق ما أقر به من ذلك بالعمل المرضي لله، من القيام بما أوجبه عليه في منصوص وحيه من كتاب وسنة.
وذلك لأن الإيمان به والشكر لنعمه لابد أن يتجسدا في صور عملية. إذ النطق الذي لم تصدقه الأعمال يعتبر كذباً ونفاقاً يستحق المقت، كما قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3-2] وأيضاً فليس العمل مجرد حركات يأتي بها في حالة صورية تقليدية، بل لابد من إفراغ الإنسان روحه فيه، واستيقاظه لمقاصد الله وحكمه فيه؛حتى يؤديه على الوجه الصحيح بخشوع وإخبات وحسن نية، واستشعار عظيم لوعد الله على الإتيان به وحسن إتقانه، ولو عبد الله على ضد ذلك، ومن هنا يصدق العبد في ضراعته بهذا العهد لله، على القيام بعبادته كما يصدق في ضراعته بطلب الاستعانة منه على إكمالها وإتقانها وإخلاصها والمثابرة عليها والمصابرة فيها.
فهذه القواعد التي ذكرنا غالبها-وسنذكر ما تيسر منها- أقول:
بهذه القواعد فتح الله لأهل دينه القويم أبواب الأمل والعمل، لمن يبتغي الوصول إلى أسمى ما قدر له من كمال وجمال في الدنيا والآخرة، فإن دعائم الإرادة القوية ما ذكرناه وما سنذكره مما هو مرتكز على الطمع في رحمة الله، ونيل وعده والخوف منه، والابتعاد عن موجبات سخطه، وحلول وعيده، وبذلك يصل الإنسان إلى المستوى الإنساني الصحيح، الذي يرفعه عن الحيوانية بتاتاً، ويحقق إرادة الله فيه، لينخرط في سلك عباد الله الصالحين، وينال الحياة الطيبة بجميع معانيها في الدنيا، ويحظى برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمنازلهم العالية في الدار الآخرة.
أما بدون ذلك فنصيبه الشقاء بالأزمات المختلفة المتلاحقة في الدنيا، والخيبة الكاملة في الآخرة، قيل للحسن: إن قوماً يقولون: نحن نحب الله ويضيعون العمل، فقال: (هيهات هيهات، تلك أمانيهم يتأرجحون فيها، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه) وسيأتي - إن شاء الله- مزيد تفصيل عند قوله - تعالى - في سورة النساء: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123].
السادس والستون بعد المائة:
الصادق في استعانته بالله، للتصميم والمثابرة على عبادته في كل ناحية، يسمو بنفسه عن الماديات، ويرتفع عن شهوات نفسه، ويستكبر عن ملذات الدنيا الحيوانية؛ لأنها من أكبر الصارفات له، أو المعوقات لسيره، فيقتصر منها على حاجة نفسه، بنية صالحة،دون أن يؤثر شيئاً منها على وظيفة الله، أو ينشغل بها شغلاً يقطعه عن مهماتها.
ويرى الصادق في عبادة الله أن الخير والسعادة في النزاهة والشرف مع الخالق أولاً ثم المخلوق ثانياً؛ لتتحقق له وعلى يديه جميع القيم الصالحة، ومن ثم يتجه اتجاهاً سليماً مستقيماً لخير نفسه، وجميع إخوته المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولجميع طرق الخير والإصلاح عامة، وهذا السر في جعل شعب الإيمان بضعاً وستين أو بضعاً وسبعين شعبة على التفصيل، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، كما ورد بذلك الحديث المتفق على صحته عن المصطفى صلى الله عليه وسلم[18].
السابع والستون بعد المائة:
صدق الاستعانة بالله يورث طمأنينة القلب، وسكون النفس؛ لأن ذلك من آثار صدق الإيمان وقوته، وإذا اطمأن قلب الإنسان وسكنت نفسه؛ حصل له برد الراحة، وحلاوة اليقين، وسلم قلبه مما ينتاب قلب غيره من الخطرات الفاسدة، أو المفزعة أو المخذلة، فكان يستقبل الأهوال بشجاعة وثبات، لا يبالي بالخطوب إذا اعتدت، ولا يلويه شيطان الهوى والشهوات عن الإقدام على الأهوال، أو الثبات على الخطوب، لاستمداده العون من ربه الذي صدق معه في ضراعته باستعانته، فهو يرى نفسه موصولاً من الله بالمدد الروحي والمعنوي، ويؤمن بأن الله يفتح له كل مغلق، فلا يعتوره اليأس، أو يتسرب إليه الجزع، ولا يصيبه شيء من الضعف أو الحيرة؛ لأنه في كنف الله وعزته ونوره، فهو من أهل هذه الآية ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُم ﴾ [محمد: 11] ومن أهل هذه الآية: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257] فهو محفوف بنصرة الله وأنوار هدايته الروحية والمعنوية، التي لا يضل صاحبها ولا يغلب.
الثامن والستون بعد المائة:
الصادقون في ضراعتهم لله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يهبهم الله مزايا وخصائص تؤهلهم لإقامة الحق والنهوض بأعباء نصرته، وتحمل التضحيات الجسام في سبيل الله لأجله؛ لأن حسن نيتهم لله وصدق ضراعتهم له وقوة ثقتهم به تكسبهم الثبات عليه والاعتصام به والتقيد بأهدابه، فما شرفت النفس بمثل معرفتها للحق واعتصامها به؛ لأنه هو الذي يعلي قدرها ويرفع مجدها، كما وصف الله وحيه في الآية (44) من سورة الزخرف، والعاشرة من سورة الأنبياء. فالصادقون مع الله بهذه الضراعة يكون لهم من الشجاعة ما يحملهم على الجهر والإعلان بالحق دون خشية أحد مهما كان، وعلى القيام بنشره والاندفاع بنصرته وإسناد أهله، لشعورهم الكامل أنهم منتدبون من الله لتوزيعه والذب عنه، كما قال - تعالى- في حصر سمة الإخلاص: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39] فالجهر بالحق من أعظم صفات الكمال؛ لأنه لا يجول الباطل إلا عند غفلة أهل الحق عنه، فإذا قام به أبطال، يصدعون به ويتحمسون لله في نشره زهق الباطل وانصعق أهله، واختفوا كما يختفي الخفاش من ضوء الشمس.
وقد أجرى الله سنته الكونية أن الحق لا يقوم وحده، وإنما يقوم بالأبطال المخلصين قومتهم في دينهم لله، وجعل الجهر بالحق واجباً عظيماً من واجبات الدين، وجعل أفضل الشهادة كلمة حق عند سلطان جائر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا هابت أمتي أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم"[19] ولا يمكن للأمة نهوض ولدين الحق نصر إلا بقيام من ينصره من المخلصين، ولا ينهض الحق ويبلغ ذروة المجد والنصر إلا إذا نهض به رجال كبار النفوس ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه بهذه الضراعة ممن ارتفعت شخصيتهم وكبرت نفوسهم بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ولله در الشاعر القائل:
تبينت أن الحق إن لم تتح له
بواسل يخشى شرها عدََّ باطلُ
لعمرك لو أغنى عن الحق أنه
هو الحق ما قام النبي يقاتلُ
فلا تحسبن الحق ينهض وحده
إذا ملت عنه فهو لا شك مائلُ
أقمه وأسنده ودعم بناءه
وذد عنه ذود الليث والليث صائلُ
ولا تنصرن الحق بالقول وحده
فإن عماد الحق ما أنت فاعلُ
من العدل ألا يطلب الحق عاجز
فليس على وجه البسيطة عادلُ
ولكن قومي يشرب الدم سائغاً
إذا خضبت يوم الورود المناهلُ
وانظروا إلى موقف أبي الحنفاء إبراهيم عليه السلام من قومه ومقارعتهم بالحجج، ومناصبتهم العداء مع خذلان أقرب قريب له، وهو أبوه، وكيف تحداهم بقوله: ﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾ [الأنعام: 80] وكذلك موسى عليه السلام الذي خرج من مصر خائفاً يترقب هارباً من فرعون، ثم يأتي إلى فرعون بعد عشر سنين مستهيناً بقوته، غير مبالٍ ببطشه وجنوده، داعياً له إلى الحق الذي ندبه الله إليه، ثابتاً أمامه، متحدياً له، صامداً لموعده، كل هذا ثقة بربه واستمساكاً بما أوحى إليه منه وثباتاً عليه، وقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام:90].
الإخلاص في العبادة و الاستعانة:
التاسع والستون بعد المائة:
بتحقيق عبادة الله وصدق التوجه إليه بإخلاص وثبات يحصل تقويم الأخلاق ورفع مستواها، وذلك أن الانشغال بالعبادة وصرف جميع الأحاسيس لها ناشئ من طهارة القلب وسلامته مما سوى الله، فيتخلص من الأمراض المفسدة له والمشقية لجميع جوارح صاحبه، لأنه ملك الأعضاء المسير لها، فانشغاله التام بالعبودية الصحيحة يقيه من أمراضه الموجبة لفساد الأخلاق من الهلع والجزع والشح والمنع والحرص واللدد في الخصومة والجهل، والغرور والظلم والبغي، والجدل والمراء، والطيش والسفه المبدد لجميع الطاقات، والعجب والخيلاء والشك والأشر والبطر والريبة، والغفلة والجمود، والكبر والفجور، والادعاء الكاذب والعناد، والتمرد والطغيان من جهة، والضعف واليأس والخور من جهة أخرى، والافتتان بالدنيا، وحب المال والشهرة، والمكر والتشفي والحقد والغضب، والحسد والهمز واللمز، والانهماك في الشهوات وغير ذلك، فإن الضمير منشأ الفعل ومصدره؛ فإن كان صالحاً بمراقبة الله ومحبته وخشيته كانت الأعمال صالحة والأخلاق حسنة؛ لانتفاء هذه الأوصاف والسجايا المذمومة، وإن كان الضمير فاسداً لحلول غير الله فيه من أنواع الأنانية، وحب الذات، فسدت الأعمال والأخلاق؛ لأن الأقوال والأعمال معبرة عما في الضمير.
وسلوك الإنسان تبع لتصوره حسبما في قلبه من قوة حب الله ورسوله وتعظيمهما، ومن ضعف ذلك أو فقدانه بالكلية، فإن ما في الضمير غيب لا يعلمه إلا الله، ولكن الأقوال والأعمال التي يتحرك بها اللسان والجوارح مخبرة عما في الضمير، وشاهدة عليه، فبصدورها يكون الحكم عليه، كالحكم على الحاضر المشاهد المنظور بالعين، المسموع بالأذنين، وقد قرر علماء الأخلاق - عن الخلق- أنه: حال نفسية تصدر عنها الأفعال بسهولة، فإن كانت حسنة كان الخلق حسناً، وإن كانت سيئة فهو سيئ، فإذا زهد الإنسان في الجانب الروحي، أو جهل مقوماته ورغائبه؛ اندفع وراء شهواته المادية وأغراضه الشخصية، لقلة الوازع الروحي في الضمير فحصل منه جميع ما ذكرناه من مفاسد الأخلاق أو أضعافها، واندفع إلى أنواع من الشرور يتضرر بها الناس على حسب قوة اندفاعه ومبلغ نزوته فيها.
ومن هنا تكثر الجرائم ويستفحل الإثم والعدوان، وتكثر الضغائن، فتوقد نيران الحروب المهلكة والفاتكة، كما يجري في عالم الماديين، ولا تنجو الإنسانية من ذلك أو أكثره إلا بالعودة إلى الله، والصدق معه في تحقيق عبادته، والتزام حكمه فيما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جرى في الإسلام من قتال، فهو لتحقيق الحياة الطيبة، بتعزيز العقيدة لإعلاء كلمة الله، وحفظ النفوس من القتل الجماعي الذي تستعمله فئة ضد الفئة الأخرى في عالمنا المادي الحاضر، ولكنهم يتعامون عن عيوبهم.
السبعون بعد المائة:
الاتجاه الصادق من المؤمن إلى الله بهذه الضراعة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يقصر مهمته على غاية شريفة باتجاه واحد، يغرس في قلبه العفاف والطمأنينة، والترفع والابتعاد عن كل ما يخل بعبودية الله، وينجيه من الجشع والتطلع إلى ما عند غيره، فيسلم قلبه من أنواع التوجع على ما فاته من طمع أو شهوة، وينجو من أمراض القلق الذي ما زال يفتك بالماديين، الذين انسعرت أفئدتهم بجشع أطماعهم الشهوانية، وأغراضهم الأنانية، وتلهفهم على حصول المال والمكاثرة به.
والذين هم دائماً في سباق رهيب للحصول على أكبر نصيب من ذلك، فقواهم البدنية والنفسية منطلقة كالآلة الدائمة الدوران لهذه الغاية المستثيرة لأعصابهم، المقلقة لأفئدتهم، إقلاقاً يهلك بعضهم بأنواع أمراض القلب والصدر، ويدفع بالبعض الآخر إما إلى ارتكاب شتى الجرائم، أو إلى تسعير حروب مهلكة بسبب التكالب على هذه المطالب المادية والأغراض النفسية، بل يدفع بهم إلى كل من ذلك كما هو المشاهد، فهم يعيشون في وحشة وتنافر وشقاق وتسابق في التسلح، وتنافس ومهارة في أنواع المكر والجرائم.
أما توجيه الله لعباده المؤمنين المتقبلين لوحيه، الصادقين بضراعتهم إليه، فهو توجيه نزيه مريح، يبث السكينة في القلوب، ويستأصل منها جميع جراثيم الطمع المادي الصرف، والتوجع عليه، لانحصار قصده وغايته في خدمة عقيدته، والتوجه الصادق من الإنسان المؤمن إلى ربه، والاستئناس بوحيه والتلذذ به، والتشرف بتنفيذ وصاياه من حمل رسالته والذب عنها، والطموح الروحي إلى نيل وعده الكريم في الدنيا و الآخرة، وصدق التوكل عليه بالجد في العمل، والمثابرة بكل فرح وشغف واطمئنان، كما جرى من الرعيل الأول، ومن ذلك التوجيه ما رواه الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح و الآخرة أكبر همه؛ جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا أكبر همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له"[20]. وزاد في رواية البيهقي: "وما أقبل عبد بقلبه على الله عز وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله إليه بكل خير أسرع".[21].
وروى الحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهم همَّاً واحداً كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبته الهموم لم يبال الله به في أي أودية الدنيا هلك".[22].
ولقد صدق مدلول هذه الأحاديث على الماديين، حتى من المنتسبين للإسلام، ممن لم يصدقوا بضراعتهم مع الله بـ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾. فتراهم في نهمة وجشع، وهلع وتحسر، وتطاحن وقلق مهلك، بحيث إن الإحصائيات الطبية قررت أن عدد الوفيات بأمراض القلب والصدور وحوادث الانتحار أكثر مما أهلكته الحروب الراهنة خلال عشرين سنة في الولايات المتحدة، التي تعتبر رمز الحرية والحضارة والتقدم المالي المشوب بالفقر الروحي والعياذ بالله.
والنصوص والأحاديث النبوية كثيرة في هذا المضمار الهادف للرضا والطمأنينة، وضبط عواطف البشر عن قصر النظر على المطالب المادية والكدح المجنون في معركة الحياة البهيمية الغارسة للأضغان، المثيرة للعداوة، المحرقة للصدقات والفضائل.
ولا عبرة بسوء فهم بعض الناس لمعاني هذه الأحاديث، مما أفضى إلى إهمال بعضهم لها وإلى مغالاة بعضهم باستخدامها في إبطال أعمال الحياة، فهي لا تنص على ترك الأعمال وعيشة الدروشة، وإنما تنهى عن إيثار الدنيا وقصر النظر على المادة، ونسيان واجب الله من حياة العبد والتعلق بغيره، وتعطيل العمل لدينه زاهداً فيه، ورغبة في غيره من المسالك المادية بأي مذهب وأي مبدأ ينشغل به الإنسان عن عبودية الله، فيكون عبداً للهوى والشهوات، عبداً للدينار والدرهم والمتاع، منصرفاً بقلبه وحركاته إلى ذلك دون الله.
فهذه معانيها السامية النافعة المطهرة الشافية للمخلصين المتبعين، الذين لا يحبون الحياة إلا من أجل الله،والعمل في مرضاته، وإعلاء كلمته،ويقصدون بجميع أعمالهم وحركاتهم هذا الهدف المحقق لجميع أنواع الفوز والسعادة في الدارين، والجالب لمدد الله في الحياة، والذين تمنحهم عبودية الله هذه المميزات، وتنعدم فيهم أسباب القلق، يسلم تفكيرهم من تأثير العواطف، وتحفهم السكينة التامة عند النوازل والملمات، فلا يغيب شي من تفكيرهم أو نظرهم إلى الحقائق، ويتلقون الأحداث بدون انزعاج أو حيرة أو تروع يعمي عليهم سبل التفكير أو ينقصها أبدا، لأنهم بقوة ثقتهم بالله وحسن نيتهم معه، وإخلاصهم له،وتفانيهم في سبيله،ينظرون بنوره، فهو سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، وقوتهم التي يندفعون بها ويبطشون، كما ورد الحديث القدسي بذلك، ولا يبتلون بالأوهام والخواطر السيئة التي تصيب غيرهم، بل هم في مأمن من جميع عوامل الهزيمة والتفكك، شعارهم في جوانحهم وجوارحهم: ﴿ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (395) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
[3] أخرجه البخاري(2442)، ومسلم (2564) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري برقم (13) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري: (481)، ومسلم (2585) من حديث أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن.."الحديث.
[6] أخرجه أبو داود برقم: (4884)، وأحمد (4/30)، والبيهقي (8/167) وغيرهم من طرق عن الليث بن سعد عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن بشر عن جابر بن عبدالله وأبي طلحة بن سهل قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الحديث.
[7] أخرجه أبو داود في سننه (5121) من طريق محمد بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بي أبي سليمان عن جبير بن مطعم مرفوعاً به.
[8] أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584) كلاهما من حديث جابر رضي الله عنه.
[9] أخرجه النسائي في المجتبى (7/123)، وابن ماجه في سننه (3948) من طريق زياد ابن رباح عن أبي هريرة بنحوه.
وأخرجه النسائي أيضاً (7/123) من طريق جندب بن عبدالله رضي الله عنه.
وفي إسناده أبو مجلز وهو مدلس وقد عنعن، وأخرجه الطبراني في الأوسط (3946) من حديث أنس بن مالك وفي سنده قزعة بن سويد وهو ضعيف، وقد وثق كما قاله الهيثمي في مجمع الزوائد(6/286).
وفي الأوسط أيضاً برقم (3405) من حديث سعيد بن المسيب عن ابن عباس مرفوعاً بنحوه.
[10] أخرجه البخاري (2810)، ومسلم (1904) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "فهو سبيل الله" بدل: "فهو شهيد".
[11] أ خرجه البخاري في صحيحه (6882) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ: "أبغض الناس". وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله فهو كقوله: " أكبر الكبائر" وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي. اهـ.
[12] أخرجه البخاري (1294)، مسلم (103) كلاهما من حديث مسروق عن عبدالله ابن مسعود مرفوعاً به.
[13] أخرجه النسائي في الكبرى ( 6 / 412 ) رقم ( 11349 ) من طريق أبي سلام عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[14] أخرجه أحمد (5 /136 )، والنسائي في الكبرى (5/272)، والطبراني في الكبير (1/198) رقم (532)، وابن حبان في صحيحه (7/424) رقم (3153).
والضياء المقدسي في المختارة (3/435) كلهم من طرق عن أبي ابن كعب به.
[15] أخرجه مسلم في صحيحه (653) من حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
= قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: " هل تسمع النداء بالصلاة؟" فقال: نعم، قال: "فأجب".
[16] أخرجه البخاري في صحيحه (1243) من حديث أم العلاء رضي الله عنها.
[17] أخرجه أبو داود (1522)، والنسائي في الكبرى (6/32)، والحاكم في المستدرك (1/407) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[18] أخرجه مسلم في صحيحه رقم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] أخرجه أحمد (2/163)، والبيهقي في سننه (6/95)، والحاكم في المستدرك (4/108) من طرق عن محمد بن مسلم عن عبدالله بن عمرو به.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ. إلا أن البيهقي قال: محمد ابن مسلم هذا هو أبو الزبير ولم يسمع من عبدالله بن عمرو.اهـ. وانظر مسند البزار (6/363) رقم (2374).
[20] أخرجه الترمذي (2465) من طريق الربيع بن صبيح عن يزيد بن أبان عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً به.
وأخرجه أحمد (5/183)، وابن ماجه (4105)، والطبراني في الكبير (5/143) رقم (4891) من طريق أبان بن عثمان بن عفان عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (11/266) برقم (11690) من طريق عكرمة عن ابن عباس، به بنحوه.
[21] أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (4/182) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
[22] أخرجه الحاكم في المستدرك (2/481)، والبيهقي في الشعب (7/289) رقم (10340). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.