السادس والسبعون بعد المائة:
تحقيق عبادة الله هو المقوم الأعلى لحياة الإنسان، وبقدر قيامه بها يقاس صعوده أو هبوطه، وسعادته لا تتحقق بدون تحققها، وبدون عبادة الله الصحيحة ينحدر في صفاته الإنسانية، وفي تصوراته للقيم الإنسانية؛ لأنه يكون عبداً للماديات، وعبداً للشهوات، وعبداً للآلة، أو تابعاً ذليلاً من توابعها، فينحط في تصوره وأخلاقه، ويهبط في علاقاته الجنسية إلى أحط من حالة البهيمة، وتراه لا يعرف سوى صخب الأسواق ودخان المصانع، وأزيز الماكينات.
وحينئذٍ يشقى ويقلق، ويعاني من الحيرة والإرهاصات ما لم يعان قط في تاريخه من التعاسة والأمراض النفسية، والشذوذ والعنة المفضي إلى كل جريمة، ويكون غالباً هائماً على وجهه، يعالج تعاسته بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه من المنعشات والخمور والمخدرات، ويتفحص مذاهب اليأس والقنوط، ويكون جميع ما حصل عليه من العلوم المادية في معزل عن روح الإنسانية الصحيحة، إذ لا يحقق شرف الإنسانية ويضمن لها الحياة الطيبة والمستوى الرفيع، إلا ما أراده خالقها العظيم، العليم بمصالحها في كل شيء على مر العصور.
ولا تتم عبادة الله إلا بصحة العقيدة التي ترسم له أهدافاً أكبر من ذاته، وأعم من فكره، وأبعد من حاضره القصير، وأرفع من واقعه، وتربطه بذات علوية لها عليه رقابة محيطة، وسيطرة تامة يحبها ويعظمها من جهة، ويخشاها ويتقي غضبها من جهة أخرى، ويتملقها ويطلب رضاها من جهة ثالثة، ويرجوها وينتظر عونها على الخير من جهة رابعة، ويستحيي من مواجهتها باللؤم وكفران النعم من جهة خامسة، ويتشوق لجزائها الأوفى بالحسنى وزيادة من جهة سادسة.
هذه العقيدة تجعله لا يخرج على عبودية الله لحظة واحدة في أي حال، ولا يلتفت إلى غيره في أي معاملة، من حب وولاء وبغض وعداء وبراء وخوف، وتعظيم ورجاء، واستعانة أو غيرها، وتجعله يخضع جميع النظريات والعلوم لوحي الله، ويكيفه به، ولا يعكس الأمر شأن الماديين المبتعدين عن عبادة الله في هذا الزمان.
السابع والسبعون بعد المائة:
حاجة الإنسان إلى عبادة الله، لا يسدها شيء أبدا، فجوعته الروحية لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يسكنها الكساء، أو أي شيء من أصناف متاع الدنيا؛ لأنها جوعة من نوع آخر، جوعة إلى الإيمان بقوة أكبر من البشر، بل أكبر من العوالم المحسوسة، جوعة إلى نيل قيمة النفس التي هي أعلى من جميع الأكوان، بل لا تقوم جميع الأكوان ثمنا لنفس واحد من أنفاس الإيمان الصحيح بالله، والعمل الصادق لوجهه الكريم، وجوعة إسلامية إلى إقامة حكم الله في الأرض، وانتزاعه من الظلمة الكفرة الذين تطاولوا على سلطانه فيها.
فجوعة المسلم المؤمن الحقيقي لا يسكنها الحضارات المادية، حضارات الكفر، مهما قدمت له من الرفاهية الحيوانية، وبذلت له من أنواع الزينة والتسهيلات، إن جوعته لا يسدها ولا يملأ فراغها سوى حب الله وتعظيمه، وحب رسوله وتعظيمه، حباً يجعله متعلقاً به، منشغلاً بطاعته، متشرفاً بتنفيذ أحكامه ووصاياه، متطلعاً إلى رضوانه، متشوقاً إلى لقائه في جنانه، مما يجعله محباً للموت أكثر من محبة أعدائه للحياة، وبذلك يكون في جهاد متواصل داخلي وخارجي، يحصل به على الحياة الطيبة من العز والنصر، والتمكين في الدنيا، ونيل جنان الخلد في الدار الآخرة، ومن لم يكن على هذه الحال كان بلا شك على الحال التي أسلفناها فيما قبل ذلك.
الثامن والسبعون بعد المائة:
حمل رسالة الله والقيام بنصرة دينه لا يتحقق بمجرد الاعتراف بالنطق بالشهادتين، والتعلق بالأماني على الله بالخوارق، وإنجاز وعده بدون عمل صالح صادق وفق أمره يستجلب رضاه، وجهاد يتبين به المؤمن عن المنافق، فلذلك كان من ضرورة كل مسلم عارف بالله، خائف من سخطه، راع لمرضاته، أن يصدق في عبادته فيضرع إليه بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾؛ لأن دين الله لا تتحقق إقامته في الأرض، حتى يحمله جماعة من البشر، يؤمنون به إيماناً كاملاً، ويستقيمون عليه غاية جهدهم، ويتعرضوا لمجاهدة الناس بجميع أنواع المجاهدة، مجاهدة بالقلب بالكراهية لباطلهم، والتصميم على نقلهم منه بجميع ضروب الأمر بالمعروف ومستلزماته، ومجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان، ورفض باطلهم وتزييفه بالنقد العلمي والعقلي، كما أرشد إليه القرآن، ومجاهدتهم باليد دفعاً وإزالة، وقمعاً وزحفاً بالحق حسب المستطاع.
فحقيقة الإيمان لا تتم بالقلب حتى يتعرض لهذه الأنواع من المجاهدة، ويصبر على الأذى والابتلاء، قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]،﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4][3] فإنه ينفتح للمسلم بذلك آفاق لا تنفتح بدون المجاهدة، ويعرف من خبايا الناس ما لا يعرفه بدونها.
التاسع والسبعون بعد المائة:
تحقيق عبودية الله تتحقق دعائم كيان المسلم ونصرته وتمكينه في الأرض، فالقيام بعبودية الله هو الضامن لحصول ذلك، وهي لا تتحقق باللفظ والدعوى، ولا بإقامة بعض الشعائر، والإتيان ببعض الأوامر دون بعض، وإنما تتحقق العبودية بحصر الاتجاه إلى الله في كل شيء، والطاعة لله في كل شيء، وتحكيم شرعه في كل شيء.
والضمان لتحقيق هذه العبادة بكاملها هو نزاهة ضمير المسلم من الهوى والأنانية، وقوة جنانه بصدق توكله على الله، والاعتماد عليه، وعدم الخوف من غيره بتاتاً، وكونه دائماً مستشعراً مشاهد يوم القيامة، والرجوع إلى مالك يوم الدين، فلذلك يكرر الضراعة بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ لعمارة ضميره، وإيقاظ شعوره، فيكون أميناً على حق الله في الحياة، والتزام ما ألزمه الله به.
الثمانون بعد المائة:
هذا الإرشاد من الله لعباده بضراعتهم إليه بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إعلام منه - تعالى - للبشر بأن هذا الدين لا تتحقق إقامته في الأرض إلا بجهودهم حسب طاقتهم، وحسن نيتهم الجالبة لعونه - تعالى -، ومدى صدقهم مع الله، وهو تعالى يجبر نقصهم ويسدد خطاهم، وينصرهم على أعدائهم، ويمكنهم في الأرض مقابل إخلاصهم في القول والعمل والقصد، لتكون كلمة الله هي العليا، فيجعلهم الأعلون.
وثبات المسلمين على هذا المبدأ، وانطباعهم بهذه الضراعة عملياً، يحقق لهم ذلك، ويجعلهم يثبتون أمام جميع العالم أن هذا الدين مستطاع وملائم لفطرة البشر، وليس دعوة (مثالية) كما يكرر ذلك من يقصد إشاعة اليأس من دوام ذلك، محتجاً بما جرى من الأحداث على عدم استئناف المد الإسلامي، وبمنهجه الذي سار عليه السلف الصالح.
لذلك فإن الصدق مع الله بهذه الضراعة يكذب هذا الزعم الذي روجه المبطلون، وهضمه المغفلون السطحيون الذين يجهلون أسباب الانتكاسة، وتلاحق الكوارث على المسلمين، فإن جريان هذا بسبب عدم الثبات على المبدأ، وعدم تحقيق العمل بمقتضى هذه الآية، التي من عامل الله بمقتضاها كان من الصادقين، الذين يصلح الله لهم أعمالهم، ويمدهم بالنصر في الدنيا.
وما أيسر رد البشرية لدين الله وإقامة حدوده إذا انبرى لها من يربيها على تربية محمدية، كتربية الرعيل الأول، لاسيما وقد تذوقوا مرارة الشقاء والقلق والإرهاب، واكتووا بنيران الحروب.
فتحقيق مقتضيات عبودية الله والاستعانة به، لا يكلف البشرية إلا أقل مما كلفته المناهج الماسونية والأهواء الجاهلية بكثير، زد على هذا أنه يعتمد على رصيد الفطرة المذخور من الله فيها، والذي لا ينضب معينه مع الاستعانة بالله أبداً.
الحادي والثمانون بعد المائة:
عقيدة المسلم وأخلاقه المنبثقة من شعاره الصادق، وضراعته الخالصة بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ هي في صميمها قوة بناءة، وحركة دافعة إلى النمو المطرد، وانطلاق إلى الحركة الدائبة في سائر المجالات التي بها تحقيق الذات، وفرض الإرادة، ولكن بأسلوب نظيف مشرف للغاية.
الثاني والثمانون بعد المائة:
استدامة الضراعة الصادقة مع الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فيها تعليم عظيم للمسلم أن موقفه في جميع واقعيات الحياة ليس موقفاً سلبياً، بل هو موقف إيحابي يجعله يسابق أعداءه في كل صنعة، واستثمار وتكتل وانطلاق، وتجعله يبادر لاستلام كل آلة وكل مخترع، ليصرفه التصريف الصحيح حسب المنهج الإسلامي، ويكيفه بوحي الله ومرضاته، ولا يقف منه موقف السلبية، فيكون من حظ أعداء الله، يسيرونه وفق أغراضهم، ويستعملونه ضد العقيدة والأخلاق، كما جرى للمسلمين الجامدين من السلبية أمام المخترعات الحديثة، من كافة وسائل النشر والإعلام.
فالتبطل والسلبية صورة غير أخلاقية؛ لأنها تعكس المقصود من غاية الوجود الإنساني، حتى تجعل القائد مقوداً، فالمسلم بإسلامه الصحيح لا يقف من هذه المخترَعات موقف السلبية، ولا يستسلم لها باعتبارها أمراً واقعاً لا مفر منه، بل يلجأ إلى معينه الذي لا ينضب، وهو وحي الله وفطرته، فيسعى بهما قوياً لتعديل الواقع، وتسييره وإصلاحه، ليدفع ما فيه من ضرر وفساد، ويحوله إلى نفع وصلاح، وذلك لأن المخترعات الحديثة وراءها قوة مادية، وصنائع لأعداء الإسلام، يفرضون بواسطتها ما يريدون من إفساد الأخلاق، والتشكيك بالعقيدة، فلا بد للمسلمين من مقابلتهم بالرصيد الذي لا يغلبه غالب، رصيد الوحي والفطرة الذي يزهق كل باطل، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 33].
الثالث والثمانون بعد المائة:
إذا حقق أهل (لا إله إلا الله) القيام بمدلول ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وعاشوا مع أولادهم وإخوانهم بالتصور الإسلامي، والعمل لخير الإسلام، فإن مجتمعهم ينمو ويقوى على ما حوله أو في وسطه من المجتمعات المادية الوثنية، بلا عوائق داخلية أو خارجية، وهم يتنفسون الأنفاس الطبيعية بكل حرية وانطلاق، وذلك بقوة تعاونهم على البر والتقوى، وتماسكهم في ذات الله، وقيامهم بواجب الشاهدين، من تحقيق العبودية، وصدق الاستعانة بالله، وتندحر أمامهم كل قوة، وتخفق كل محاولة ضدهم.
أما الذين يجبنون عن تحقيق مدلول ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، ويعتنقون من دينهم ما يريده العدو لهم من صلاة باردة لا يتأثر بها أهلها خارج المسجد، أو طقوس مصطنعة باسم الطرق الموروثة، دون بذل المجهود لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمته في الأرض، فإنهم يكونون ضائعين وسط المجتمعات المادية المخالفة لأمر الله، والمتطاولة على وحيه بل يكونون مطاردين إذا حاولوا القيام أو التلفظ بما يخالف آراء حكام هذه المجتمعات، حتى تكون عقيدتهم مجرد اسم مكنون في الضمير أو مزعوم، كما تريده الماسونية اليهودية بمصطلحاتها الخداعة.
وإذا كانوا لا يملكون تحقيق إسلامهم، وهم أفراد ضائعون أو مطاردون وسط المجتمعات المادية الوثنية الجديدة، فما قيمة هذا النوع من المسلمين نسبياً أو دولياً؟ ومن هنا يحتِّم الإسلام على أهله إقامة مجتمع يهيمن عليه شرع الله، ويحرم عليهم تملق الكفار أو مشابهتهم، فضلاً عن التميع معهم، ويوجب عليهم التعاون فيما بينهم والتفاف بعضهم إلى بعض، مهما بعدت الشقة، وأن يقاطعوا من سواهم ممن لا يسالمهم على عقيدتهم مسالمة صحيحة.
الرابع والثمانون بعد المائة:
العابد لله حقاً والضارع إليه بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ صدقاً يشق طريقه نحو تنفيذ أوامر الله، صادعاً بالحق، لا يبالي بما يقف في وجهه من تصورات المجتمع وعقائدهم المخالفة لوحي الله، ولا يبالي بما يقف في وجهه من الأوضاع والأنظمة والعصبيات والأطماع، ساعياً إلى تصحيح كل ذلك.
وبهذا التصميم القوي الصادق تتكون فئة تقوم بحكم الله، وقمع من ينازعه، فيرتفع الإسلام عالياً بصدق النية، وبذل المجهود في إعلاء كلمة الله، كما حصل ذلك من السلف الصالح الذين أصروا على إزالة ما يخالف دين الله، دون مبالاة بما يسند الباطل من قوى الشر كلها، لقوة اعتقادهم بأن الباطل لا يجول إلا عند سكوت أهل الحق عنه، فإذا صالوا عليه فإنه يكون زهوقاً.
ولو قال قائل في ذلك الزمان: إن هذا الدين سيصارِع ما أمامه من القوى الهائلة، وينتصر عليها في ثلث قرن من السنين تقريباً ؛ لسخر منه السامعون، ولكن هذا الباطل الهائل القوي سرعان ما انهار أمام أهل الحق بسلاحهم الضعيف الذي تؤيده قوة السماء المستمطرة من الله بصدق قلوبهم معه، وإخلاص أعمالهم له، ومحبتهم إياه، كما هي سنة الله الدائمة التي لا تتبدل بل تتكرر كلما سلك الناس صراطه المستقيم، واتبعوا رضوانه ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23].
الخامس والثمانون بعد المائة:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وهي رصيد الفطرة المستمد من كنز (لا إله إلا الله) الفطرة التي لا تعرف إلهاً إلا الله، والتي من رجع إليها بعقله الفطري السالم من المؤثرات عرف الإله الحق بخصائصه وصفاته، فامتنع أن يعبد أحداً من الناس بتاتاً، وشمخ برأسه إلى عبادة الواحد القاهر، وحينئذٍ يقف الجميع رافعي رءوسهم أمام بعضهم البعض، فيا له من توجيه سماوي من رحمن رحيم، يقي عباده شرور الامتيازات الطبقية، والعناصر الدموية، والتفرقة الجنسية التي بسببها يفرض كل ٌلنفسه حقوقاً ومميزات دون غيره.
فقد كانت هذه موجودة عند العرب لا سيما في قريش التي تسمي نفسها (الحمس)، وكان المجتمع الإيراني أفظع حالة؛ لأنه مؤسس على اعتبار النسب والحرف، فكان بين طبقاته فوارق عظيمة جداً لا يكاد يتصورها إلا من عرف التاريخ، حتى كانت الأكاسرة عندهم كالآلهة، والأغنياء كالقديسين، ومع هذا فالإقليم الهندي أفظع منهم وأبشع في نظام الطبقات الذي لا يزال باقياً حتى الآن، ففيهم كثرة كاثرة يسمون بالمنبوذين لا يعاملون إلا معاملة البهائم.
وهكذا كل بلد، حتى الولايات الأمريكية التي هي قبلة الماديين في هذا الزمان بالعلم والحرية والتمدن، عندهم من التفريق العنصري ما تأباه النفوس السليمة، ولن ينقذ الأمم سوى تقيدهم بهذه الآية وانطباعهم بها، ليطهر مجتمعهم من الملوثات الجاهلية، المتمثلة في التفرقة القائمة على اختلاف الدماء والأجناس والأوطان، وفي الإخضاع والطبقية وأكل السحت والربا.
فتحقيق العمل بمقتضيات هذه الآية الكريمة استجابة لله وسير على فطرته ووحيه الذي يجعل كرامة الإنسان مستمدة من إنسانيته، وطواعيته لله، ويحصر ميزة الإنسان على الإنسان بتقوى الله، وشكر نعمه بحسن التصرف فيها، وفق مرضاته ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13] فليست كرامة الإنسان مستمدة من لون أو وطن أو عرض آخر، كمنصب أو ثروة وغيرها من الأعراض الزائلة، بل قد تبعده عن الكرامة الحقيقية إذا طغى بها، وأبعدته عن طاعة الله.
وإنما كانت الميزة بالتقوى؛ لأنها تجعل صاحبها فاضلاً بحسن سلوكه، وقوة صموده في الحق، ورباطة جأشه، وصولته لحماية الدين، فبدونها لا ميزة لأحد على أحد حتى الحكام والأمراء، فقد علمتهم عبودية الله أن ليس لهم حقوق شخصية زائدة على غيرهم، ونكتفي هنا بقول الصديق الخليفة الأول رضي الله عنه: إني وليت أمركم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسات فقوموني، وأطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم.
وبالحادثة المشهورة للقبطي مع ابن عمرو بن العاص.
ولا يتمثل نبذ العصبيات والامتيازات الأخرى في أهل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ فهم الذين منحوا الكرامة الإنسانية لجميع بني الإنسان، بعد أن كانت وقفاً على طبقات معينة، أو بيوت معينة، وجعلوا قوة علاقتهم بالله من محبته، والسعي في مرضاته، هي التي تقيم له الوزن في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
السادس والثمانون بعد المائة:
الصادق بضراعته إلى الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ لابد له أن يكون حارساً أميناً على نفسه ومجتمعه، من الانفلات والانصياع عن مقتضياتها؛ لأن الذي لا يتمسك بمقتضياتها، ولا يستقيم على ذلك، لا يكون محلقاً إلى سماء العزة وحسن القوامة، بل يهبط من تلك القمة السامقة إلى أسفل أو إلى أسفل سافلين، ولا يتمكن من مواصلة وثبته، والسير كسيْر أسلافه، بل يهبط على حسب انصياعه مع الهوى والشهوات، ومن هبط بنفسه لا يرجى منه الارتفاع بغيره.
ومن هنا حصل الضعف والتخلف بالمسلمين لعدم قوة إخلاصهم لله، وصدقهم معه بهذه الضراعة التي يكررونها في كل ركعة من ركعات صلاتهم، ولو كمل فيهم الإخلاص، وقوي صدقهم مع الله؛ لأعادوا سيرة أسلافهم الأولى، وجددوا الزحف المقدس الذي قاموا به، ولكنهم فقدوا التذوق الصحيح لحلاوة الإيمان التي تذوقها أسلافهم، ففقدوا العزة الصحيحة، والمسلم لا ييأس من عودة هذا التذوق وجني ثماره الطيبة، بحول الله وقوته.
السابع والثمانون بعد المائة:
بتحقيق عبادة الله في سائر ميادين الحياة تتحقق للإنسانية الحضارة الصحيحة، التي ينال الإنسان بها حريته وكرامته، ويسلم فيها من شرور الحضارة الصناعية التي قلبت حقيقته، وجعلته كالحيوان بل كالآلة، وحرمته من الحياة الطيبة والتقدم الصحيح، وصرعته بالأفكار الفاسدة التي أبعدته عن معرفة طبيعته الحقيقية؛ لأنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم التي صاحبتها حاجات في صدورهم، مما جعل الإنسانية تنحط في تفكيرها وأخلاقها انحطاطاً ينذر بعودتها إلى الوحشية والهمجية.
بل حصل بعض ذلك بسبب ما صاحب العلم الصناعي من الغزو الفكري المغرض، الذي يركز فيه كل طاغوت مقاصده، وكل ملحد مفاسده يتوخون في ذلك العداء لصميم العقيدة الإسلامية، والأخلاق الدينية، فيعملون على إبعاد عناصرهما عن العلم المادي، خلاف ما توجبه عبودية الله من تكييف كل شيء بروح الدين والعقيدة والأخلاق، بل قامت الحضارة الصناعية في هذه الأزمنة على روح العداء لكل ما جاء من عند الله، وما يمدهم به وحيه من المعرفة الحقيقية بهذا الكون، ومهمة الإنسان فيه، زد على ذلك طغيان فتحه وجماله، الذي بهر العقول حتى خبطها.
وإلا فالعلم الخالص من ذلك لا يجلب ضرراً مباشراً محضاً، فليفهم ذلك جيداً، وليعلم أن تطاول الحضارة الصناعية على ألوهية الله وافتئاتها على وحيه يجلب عليها عقوباته القدرية المتنوعة، التي لا تحيط بها العقول، وحتماً أن سنة الله الكونية لا تدع المعتدي عليها بلا عقوبة، وها نحن نراهم يتخبطون في بعضها أو في مبادئها ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21] ولا نجاة لهم منها إلا بعودتهم إلى عبودية الله بصدق وإخلاص لا يشوبها تطفيف.
الثامن والثمانون بعد المائة:
بتحقيق الإنسان لعبودية الله يتحرر من المذاهب المادية ومن طغيان المادة، ويكون دين الله سيداً عليها، مسيراً لها وفق مرضاة الله، لا يهملها شأن الرهبنة المعطلة للحياة، ولا يجعلها نداً من دون الله كما تريده النظريات العصرية المرتكزة على الطرائق الماسونية اليهودية.
فإن المتقيدين بعبادة الله حسب وحيه لديهم إحساس بالواجب أمام الله، يجاهدون لتحقيق إرادته؛ لأن إيمانهم يمنحهم القوة والفضيلة، ويمدهم بنور بصيرة يجعلهم لا يبنون ليومهم فقط، بل لسائر الدهر، ولا يعملون لأنفسهم فقط، بل لجميع البشر.
فالمجتمع الذي يتكون على هذا الأساس يكون له أحسن النتائج في كافة نواحي الحياة، ولهذا صار الإسلام أممياً بريئاً من النزاعات العنصرية، وأهله الصادقون بريئون من الأنانية.
التاسع والثمانون بعد المائة:
تعليم الله لعباده الضراعة إليه بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إعلام صريح بوجوب الصلة بين الإيمان والعمل، وأنه لا يستقيم الإيمان بالله، ولا تصح دعواه إلا بتحقيق مقتضيات عبوديته، التي هي العمل بطاعته، وتنفيذ شريعته، وإخلاص القصد لوجهه الكريم، والانشغال بمرضاته، والعمل المتواصل لنصرة دينه، والدفع به إلى الأمام بجميع القوى المطلوبة، ليرتفع بدين الله عن الصورة إلى الحقيقة، وأن المسلم لا يجوز له الإخلال بذلك، ولا لحظة واحدة.
وإن الدعوات لمجرد إيمان خالٍ من العمل هي إفك وخداع وتلبيس، بل هي من دس اليهود على أيدي الجهمية، وفروعها من المرجئة كالماسونية وغيرهم، إذ متى انفصمت الصلة بين الإيمان والعمل، فلن نستطيع أن نبني قوة روحية نقدر على نشرها والدفع بمدها في أنحاء المعمورة، بل إذا انفصمت الصلة بين الإيمان والعمل فقدَ المسلم قوته الروحية، وصار وجوده مهدداً بالخطر، الذي يزيل شخصيته أو يذيبها في بوتقة غيره؛ لأنه لا يستطيع أن ينمي قوة روحية يصمد بها أمام أعدائه، فضلاً عن أن يزحف بها عليهم.
فدعوى فصل الدين عن الدولة، وحصر عقيدته في الضمير، إنما هي دعوى باطلة من مكر اليهود وأعوانهم، الذين كسبتهم الماسونية كسباً رخيصاً، والعياذ بالله، فالذي لا يعمل لله في جميع مجالات الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها، ليس عابداً لله، بل هو عابد للهوى، ومتخذ له آلهة شتى، في كل ميدان، فليحذر المسلم من الانخداع، وليعلم أن الله لم يخلقه ليكون منتجاً مادياً كالحيوان، وإنما خلقه ليكون ربانياً محققاً لعبودية الله في كل المجالات المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنساني.
والدين الذي اختاره الله ليس مجرد عقيدة صورية محصورة في الضمير، منعزلة عن واقع الحياة، كلا، إذاً فمن الذي يسير واقع الناس، ويؤسس لهم النظم الأخلاقية والثقافية والتربوية والسياسية والاقتصادية وغيرها؟ هل النظريات اليهودية تسير واقع الناس، من داروينية، وفرويدية، وماركسية، وديمقراطية، ونحوها؟
طبعاً إذا أقصي الدين عن شئون الحياة، وعطلت أحكام الله في القرآن عنها؛ حل محلها نظريات اليهود وأفراخهم، ولم يبق معهم من الدين إلا مجرد الانتساب، الذي هو كالصورة، وما أعظم الفرق بين الحقيقة والصورة!!
تالله إن الكفر بجميع أنواعه لم يهزم من الإسلام إلا صورته، أما الحقيقة فلو اصطدم بها لتحطم في الآخرين، كما تحطم في الأولين، واليهودية العالمية منذ عصور لم تسقط إلا الصور التي عملت على إبرازها، ذلك أن أكبر صورة يعبث بها الطفل يقدر على إسقاطها، أما الحقيقة فعملاقة.
التسعون بعد المائة:
عبودية الله لا تعطل عقل الإنسان من التفكير في الماديات وتسخيرها واستثمارها، كما أسلفنا بعض الحكمة في موهبة الإنسان لها من الله، بل عبودية الله الحقة تدفع المسلم المؤمن إلى ذلك، ولكن تحت قيادتها، فعبادة الله هي التي تحفظ النمو والحركة المادية، وتحوطهما بالسياج الواقي من الهوى والتهور، والخبط في المتاهات، وتحفظهما من النكسة والانحدار داخل إطار الفطرة الإلهية، بوضع المنهج المقوم لهما عن الميل الذي يجعلهما يصطدمان بطبيعة الإنسان ومقوماته الروحية بلا كبت ولا تحطيم.
ففي تحقيق العبودية في ذلك وقاية للإنسان من الغزو بالفتح العلمي، الذي يفقده الاستقامة ويرديه في التيه والضلال؛ لأن الحضارة الصناعية التي لا تحاط بعبودية الله تحطم أهم ما في الإنسان من مقوماته الإنسانية، وإن أدت له في الظاهر كثيراً من وسائل الراحة والتسهيلات الرائعة، التي قد تكون مؤذية لكيانه المادي ذاته، كما قرره المحققون من كُتَّاب هذا الزمان.
فعبودية الله تهدي إلى المسلك الوسط الصحيح بلا بخس ولا مبالغة، وتجعل السيطرة للروح المؤمنة على جميع الماديات، ولا تجعل الإنسان يستعبده ما يصنعه.
[1] لم أقف عليه.
[2] أخرجه البخاري (52) ، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[3] في هذا الموضع وغيره من مثله يشير الكاتب إلى رقم السورة ثم الآية.